غرب كردفان يحترق.. انتهاكات بحق المدنيين والنازحون يفرّون نحو المجهول
غرب كردفان يحترق.. انتهاكات بحق المدنيين والنازحون يفرّون نحو المجهول
في ولاية غرب كردفان، لم تعد السماء فقط تهطل مطرًا، بل تنهال رصاصًا، وصوت الريح لم يعد يُسمع وسط ضجيج الدراجات النارية والسيارات القتالية التي تحمل عناصر قوات الدعم السريع، وهي تجتاح القرى والبلدات، تاركة خلفها أطلال منازل محترقة، جثثًا بلا هوية، وأسرًا ممزقة شتّتها الخوف والنار.
منذ مطلع مايو الماضي، يتعرض سكان ولايتَي غرب كردفان وشمال كردفان لانتهاكات وجرائم وصفت بأنها “واسعة النطاق وممنهجة”، طالت المدنيين الأبرياء، ودفعت بعشرات الآلاف إلى النزوح القسري في ظروف إنسانية قاسية، وسط صمت رسمي، وتجاهل دولي، بحسب ما ذكرت شبكة "سودان تريبيون"، اليوم الأحد.
وقالت إنه في منطقة خماسات، الواقعة بين النهود والخوي، استفاق الأهالي منتصف مايو على مجزرة مروعة ارتكبتها قوات الدعم السريع. ثلاثون مدنيًا، بينهم شيخ البلدة عبد الباقي قريب، أعدموا ميدانيًا، وفق توثيقات حقوقية وشهادات ناجين فروا صوب مدينة الأبيض.
كانت المذبحة رسالة ترهيب، تُضاف إلى سلسلة من الجرائم التي تكررت لاحقًا في قرى جبر الدار، الرويانة، أكيرت، أم عويشة، وغيرها، حيث وُثقت عمليات نهب، وحرق ممتلكات، واعتقالات جماعية، لا يزال مصير المعتقلين فيها مجهولًا حتى الآن.
البحث عن الفلول
"كانوا يبحثون عن الفلول"، تقول فاطمة عمر، وهي نازحة وصلت إلى الأبيض بعد رحلة سير استغرقت يومًا ونصف يوم عبر طريق وعر لا يخلو من المخاطر.
تصف فاطمة اللحظة التي دخلت فيها قوات الدعم السريع مدينة الخوي بعد انسحاب الجيش فجراً: "انتشروا في كل حي، وبدؤوا إطلاق النار، جلدوا الناس في الشوارع، اقتحموا البيوت، سحبوا الشباب وأطلقوا الرصاص مباشرة على صدورهم.. لم يكن هناك وقت للحيرة أو البكاء، كنا فقط نركض بحثًا عن طريق للهروب".
أكثر ما يثير القلق في هذا المشهد الدموي هو الأبعاد العرقية التي أخذها الصراع، إذ تشير شهادات متطابقة إلى أن عناصر الدعم السريع استهدفت أبناء قبيلة حمر، متهمةً إياهم بموالاة الجيش.
وتمت تصفية رموز وقيادات اجتماعية وتعليمية، بينهم محمد إبراهيم أبو شقة، القيادي في قوات الاحتياطي التابعة للقبيلة، والذي قُتل في منزله بمدينة الخوي.
ولم تسلم النساء، ولا الأطفال، ولا الشيوخ من الانتهاكات، لتتحول الحملة إلى ما يشبه "تطهيرًا عرقيًا" صامتًا، في قرى لا تمتلك صوتًا ولا تغطية.
نهب وحرائق متعمدة
تحوّلت مدينة النهود من مركز تجاري مهم للمحاصيل الزراعية إلى أرض محروقة، حيث نهبت قوات الدعم السريع جميع مخازن السمسم، الفول السوداني، الصمغ العربي، والذرة، قبل أن تنقلها في شاحنات ضخمة نحو ولايتَي جنوب وشرق دارفور، وفق مشاهدات السكان.
وفي الخوي، لم يكن الأمر أفضل، إذ أُحرِق السوق الكبير عمدًا، وجرى تدمير واسع لمراكز الخدمات والمحال التجارية.
"لم يكن ذلك فقط لإذلالنا، بل لحرماننا من أي فرصة للبقاء"، يقول أحد سكان النهود الذي لجأ إلى الأبيض، مضيفًا: "حتى المياه التي حملناها في أوعية أثناء النزوح أفرغوها على الأرض".
أزمة إنسانية متفاقمة
في مراكز الإيواء بمدينة الأبيض، تقيم آلاف الأسر النازحة في ظروف مأساوية، الهطول المستمر للأمطار يضاعف المعاناة، والمدارس التي تحولت إلى مأوى مؤقت باتت عاجزة عن استيعاب المزيد. الغذاء شحيح، والماء غير آمن، والمساعدات شبه منعدمة.
محمد قسم الله، أحد النازحين، يوجّه نداءً عبر هذا التحقيق إلى المنظمات الدولية: "نحن لا نريد شيئًا سوى الأمان والخبز والماء، النساء تموت في الطريق، الشيوخ ينهارون من العطش، والناس تنام في العراء تحت المطر.. هل هذا كثير؟".
بحسب مفوض العون الإنساني بولاية غرب كردفان، فإن أكثر من 17 ألف أسرة نازحة وصلت إلى الأبيض، فيما لا يزال 42 ألفًا عالقين في محلية النهود، محاصرين بانتهاكات ميليشيا الدعم السريع وغياب أي ممرات آمنة. ويُسجل يوميًا تدفق بين 400 و470 أسرة جديدة نحو شمال كردفان.
صمت دولي ونداء أخير
حتى لحظة إعداد هذا التقرير، لم تُسجل أي استجابة فعالة من الحكومة السودانية أو الأمم المتحدة لوقف هذه الكارثة الحقوقية والإنسانية. في حين تستمر الانتهاكات، يموت المواطنون بصمت، ويخنقهم الخوف والمجهول.
في ولاية غرب كردفان، لا أحد يسأل عن عدد القتلى، بل كم تبقّى من الأحياء.